شيخ صوفية العراق سيدي الامام السري السقطي
على بساط الانس والمشاهدة شرب العارفون من رحيق النور الازلي وارتووا من معين الوصل الالهي فهامت ارواحهم في سرادقات الجلال والجمال مستغرقة في عظمة المولى فانية في وجوده متنعمة بشهوده , انها ارواح مختصة بالعطاء وقلوب سجلت لهم العناية مراسيم الولاء , تلك منح وعطايا وهبها الله تعالى لاحبائه الاولياء الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفور العظيم .
ومن خواص اهل الولاية والاصطفاء والعناية والاجتهاد الامام العارف والصوفي الشامخ سيدي ابو الحسن السري بن المغلس السقطي , احد ائمة الصوفية العظام الذين تفجرت عيون مواردهم في المعارف الالهية وفاضت مناهل عرفانهم بالنفحات القدسية .
وناهيك بمن هو شيخ الامام الجنيد سيد الطائفة الصوفية فهو خاله واستاذه وهو امام التصوف بالعراق في عصره وهو كما قال الامام القشيري في رسالته : ( اوحد زمانه في الورع واحوال السنة وعلوم التوحيد ) .
ويقول عنه ابو عبد الرحمن السلمي في طبقاته : ( وهو اول من تكلم ببغداد في لسان التوحيد وحقائق الاحوال وهو امام البغداديين وشيخهم في وقته ) .
فالامام السري اذا يعد رائد عصره في كشف حقائق التصوف وعلومه . ثم هو امام زمانه في احوال القوم واخلاقهم ومناهجهم السلوكية التي ترتقي بالعبد الى قمة الوصول .
والعارف ابو الحسن السري بغدادي المولد كما انه بغدادي الوفاة ,, اذ توفى في سنة احدى وخمسين ومائتين هجرية , مقامه بالشونزية ظاهر يزار وتلتمس منه البركات .
وقد من الله تعالى علي بزيارة ضريحه في بغداد سنة 1411 هـ سنة 1990 م حيث كنت عضوا بالمؤتمر الاسلامي ضمن وفد المجلس الاعلى للشؤون الاسلامية .
وقد تلقى القطب السري طريقته عن قطب عصره الامام العارف سيدي معروف الكرخي الذي يعد شيخ التصوف بالعراق في زمنه والذي تلقى بدوره الطريق عن سليل البيت النبوي سيدي علي بن موسى الرضا وقد استمد الامام السري المدد الصوفي من سيدي معروف ليسرى اليه نور هذه السلسلة المنتهية الى بيت النبوة ثم منه الى الامام ابي القاسم الجنيد الملقب بسيد الطائفة الصوفية .
وعن قصة البداية في الطريق الصوفي الامام السري مع شيخه سيدي معروف : يروي الامام القشيري بسنده عن ابي العباس بن مسروق يقول : ( بلغني ان السري السقطي كان يتجر في السوق – وهو من اصحاب معروف المكرخي – فجاءه معروف يوما ومعه صبي يتيم فقال :اكس هذا اليتيم .
قال سري : فكسوته.
ففرح به معروف وقال : ( بغض الله اليك الدنيا واراحك مما انت فيه) , فقمت من الحانوت وليس شيء ابغض الي من الدنيا وكل ما انا فيه من بركات معروف .
وعلى اثر هذا الحادث واستجابة لدعوة سيدي معروف توجه الامام السري الى الله وترك تجارة الدنيا ليشرع في تجارة الاخرة , بل ليستقبل عهده مع الله في محراب العبادة والعبودية يعبده تقربا اليه لا طمعا في ثوابه ولا خوفا من عذابه كما هو الشأن في عبادة الاحرار .
ولقد سلك الامام السري طريق القوم على تعطش للعبادة والمعرفة فاقبل على الطاعات بروح تواقة شغوفة بالتحرر من الانية والغيرية . دؤوبة على الخدمة والعكوف بباب المولى حتى يؤذن لها بالدخول .
واخبار عبادات الامام السري تثير العجب وتفوق الخيال : يقول الامام الجنيد : ( ما رأيت أعبد من السري , أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رئي مضطجعا الا في علة الموت ) .
اي طراز هذا من الرجال ؟؟ انه الطراز الملائكي الذي يقتات من العبادات ويتنفس بالطاعات كما قال تعالى في حق الملائكة يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ
وهذا هو دأب العارف السري , وقد كان يوصي به اصحابه ومريديه , ولقد سمعه الامام الجنيد يقول : ( اني اعرف طريقا يؤدي الى الجنة قصدا فقيل له ما هو يا أبا الحسن ؟
فقال : ( ان تشتغل بالعبادة وتقبل عليها حتى لا يكون لك فيها فضل ) .
لقد فسر هو بنفسه معنى قوله : ( حتى لا يكون لك فيها فضل ) عمليا وذلك بعبادته المتصلة ثمانية وتسعين عاما امضاها بين صيام وقيام وذكر وفكر حتى لقد كان يقول : ( اذا فاتني جزء من وردي لا يمكن ان اقضيه ابدا ) .
وعلل ذلك الامام الجنيد قائلا : ( لان السري كان متصل التنفل ) .
وكان يقول ( من قام بين يدي الله في الظلام نشرت له يوم القيامة الاعلام ) .
ولقد كان المنهج السلوكي عند العارف السري ذا جوانب متعددة عميقة الغور والابعاد . وكانت تلك الجوانب في مجموعها تمثل حلقات متصلة بحيث تفضي هذه الجوانب في النهاية الى بلوغ قمة النضج الروحي حيث تحلق الروح في سماء المعرفة والولاية .
ففي مجال النفس مثلا : تطالعنا عند الامام السري صفحات مضيئة يكاد سنا برقها يذهب بالابصار . يقول : ( ان نفسي تطالبني منذ ثلاثين سنة او اربعين سنة ان اغمس جزرة في دبس – اي عسل التمر وعسل النحل – فما أطعتها ) .
انها مجاهدة النفس في شهوة حلال من اجل قطع ماربها لكي يصفو الجو للروح فتنطلق الى معاريج الوصول .
ولقد دخل عليه الامام الجنيد يوما فقال له : يا جنيد عصفور يجيء كل يوم أفت له الخبز في يدي فياكله فنزل الساعة ولم يسقط على يدي فتذكرت اني اكلت ملحا بابراز فآليت الا اكله بعدها فعاد كما كان ) .
ولطالما تحرى الامام السري الحلال مع شدة الورع حتى تحمل في ورعه الكثير والكثير وكان يقول دائما : ( آه على لقمة ليس لله فيها تبعة ولا لمخلوق فيها منة ) !!
ومن تلك الوقائع التي تجلي فيها ورع سيدي السري ما رواه الامام الشعراني في طبقاته اذ قال : وقال علي بن الحسين بعثني ابي للسري بشيء من حب السعال لسعال كان به . فقال لي : كم ثمنه ؟ فقلت له : لم يخبرني بشيء . فقال اقرأ عليه السلام وقل له : نحن نعلم الناس منذ خمسين سنة ان لا يأكلوا باديانهم افتراني اليوم آكل بديني ؟؟؟ ولم يأخذ منه شيئا !!! .
ويؤكد صاحب الحلية هذا المرتقى السامي عند الشيخ السري قائلا ( وسمعت ابا علي الحسن البزاز يقول سألت ابا عبد الله احمد بن حنبل عن السري بعد قدومه من الثغر فقال : أليس الشيخ الذي يعرف بطيب الغذاء ؟ قلت بلى قال هو على سيره عندنا قبل ان يخرج .
ثم يقول ابو نعيم : وقد كان السري يعرف بطيب الغذاء وتصفية القوة وشدة الورع حتى انتشر ذلك عنه , وبلغ ابا عبد الله احمد بن حنبل فقال : (الشيخ الذي يعرف بطيب الغذاء ) .
وقد كان منهج السري في الورع منطويا على جواهر الحكم السلوكية الصوفية فها هو ذا يقول : ( لا يقوى على الشهوات الا من ترك الشبهات ) .
ويؤيده ما ورد في الحديث الشريف , فمن اتقى الشبهات فقد تبرأ لدينه وعرضه , وأيضا فقد كان العارف السري يقول : ( تصفية العمل من الافات اشد من العمل ) .
ثم الى جانب الزهد والورع فقد كانت المراقبة في اعلى درجاتها متمثلة في سلوك الامام السري . والمراقبة هي احدى مرتبتي الاحسان الوارد معناه في الحديث الشريف إذ قال سيد الوجود : الاحسان ان تعبد الله كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك , فالشق الاول للمشاهدة والثاني المراقبة , والمراقبة عند العارفين لها درجات ومنازل , ولقد تربع سيدي السري في قمة المراقبة والحضور , يقول : ( صليت وردي ليلة فمددت رجلي في المحراب فنوديت , يا سري كذا تجالس الملوك قال : فضممت رجلي ثم قلت : وعزتك لا مددت رجلي أبدا ) !!
انه نداء المراقبة من قبل الحضرة العلية للعارف السري ولقد عرف نفس النداء مع سيدي ابي يزيد البسطامي وسيدي ابراهيم بن ادهم .
ومع المراقبة هناك التوكل والرضا , ولكل مفهومه عند العارف السري , فهو يعرف التوكل بانه : ( الانخلاع من الحول والقوة ) .
ثم يقول عن الرضا والورع والعبادة والشكر ( رأس الاعمال الرضا عن الله وعمود الدين الورع , ومخ العبادة الجوع , وضبط اللسان حصن حصين , ومن شكر الله جرى في ميدان الزيادة ) .
ويرى الامام السري السقطي ان التجرد لله تعالى هو أقرب ما يوصل الى الحضرة الالهية , فلقد سئل يوما , كيف الطريق الى الله ؟
فقال : ( ان اردت العبادة فعليك بالصيام والقيام , وان اردته فاترك كل ما سواه تصل اليه ) .
اي ان هناك طريقين موصلين الا ان اقربهما للوصل هو ترك السوى , ولقد ترك الامام السري كل ما سوى الله فوصل الى الله , وصل اليه على جناحي المحبة والشوق , وللمحبة عند العارف السري مقام لا يرام بالكلام ولا يسطر بالاقلام يقول الامام الجنيد ( سألني السري يوما عن المحبة فقلت : قال قوم هي الموافقة , وقال قوم الايثار , وقال قوم : كذا فاخذ السري جلدة ذراعه ومدها فلم تمتد , ثم قال : وعزته لو قلت ان هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبته لصدقت . ثم غشي عليه فصار وجهه كأنه قمر مشرق وكان السري به أدمة _ اي سمرة ) .
ومصداق لمنطق هذه الواقعة فلقد رفع السري الى الامام الجنيد يوما رقعة وقال له : انظر ما فيها فاذا فيها :
اذا ما شكوت الحب قال كذبتني
فما لي ارى الاعضاء منك كواسيا
فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشا
وتذبل حتى لا تجيب المناديا
ولقد جاء رجل وقال يوما للعارف السري : كيف أنت ؟
اجابه قائلا :
من لم يبت والحب حشو فؤاده
لم يدر كيف تفتت الاكباد
انها محبة العبد لسيده ومولاه , هي القوت والغذاء , وهي الخمر وهي الكأس وهي النعيم وهي السرور فأعجب لنعيم يفتتت الاكباد ويذيب المهج ويلصق الجلد بالحشا ويقطع المحب عن كل شيء سوى محبوبه .
ولقد ارتفع سيدي السري بمحبته الى درجة العشق , حتى انه مرض يوما ولم ير عليه تغير . فأخذ الامام الجنيد بوله فذهب الى طبيب نصراني فتأمله وقال : هذا بول عاشق !! فصعق الامام الجنيد وأغمى عليه ثم أخبر شيخه السري فقال : قاتله الله ما أخبره ! ما كنت أظن ان الحب يظهر في هذا !!! .
وما من شك في ان غاية المحب ومناه في الوصال .
ومن ثم فالحجاب عن المحبوب هو أشد ما يعانيه المحب من العذاب , لذلك كان الامام السري يتضرع الى ربه ويناجيه قائلا : ( اللهم مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب ) .
ان الاولياء ينشدون الوصال دائما فهو مطلبهم الاسمى ومع الوصال يكون الانس والرضا والهيبة والجلال , وكلها مقامات لها ِشأنها عند أهلها , وقصارى ما يمكن ان نصل اليه هو المدلول النظري عن طريق التعرف والبحث . اما الادراك الصوفي العملي فهو وقف على اهله الذين اصطفاهم ربهم واجتباهم , وقد أوجد البون الشاسع بين النظر والتطبيق عقبة منيعة في التصديق , ولكن لا يسعنا الا نشدان الحقيقة والتعرف عليها من اي الوجوه والزوايا .
وفي مقام الانس والهيبة يقول الامام السري : ( يبلغ العبد من الهيبة والانس الى حد لو ضرب وجهه بالسيف لا يشعر ) .
ويعلق الامام الجنيد على كلام شيخه قائلا : ( وكان في قلبي منه شيء حتى بان لي الامر كذلك , وذلك لان الهيبة والانس حالتان فوق القبض والبسط ) .
والقبض و البسط , فوق الخوف والرجاء , فالهيبة مقتضاها الغيبة والدهشة فكل هائب غائب حتى لو قطع قطعا لم يحضر من غيبته الا بزوال الهيبة عنه .
والانس مقتضاه الصحو والافاقة , ثم انهم يتفاوتون في الهيبة والانس , وقيل ادنى مرتبة في الانس انه لو القي في النار ما تكدر انسه , الا ترى الى قول السري : ( يبلغ العبد من الهيبة والانس الى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر ) ولذلك لان الانس يتولد من السرور بالله , ومن صح انسه بالله استوحش مما سواه .
فمهذه مقامات العارفين السابحين في بحار القرب الفائزين برضا الرب الناعمين بالولاية الربانية والمجتبين للمعرفة الالهية , وللمعرفة علامات ابان عنها العارف السري اذ قال : ( من علامة معرفة الله القيام بحقوق الله وايثاره على النفس فيما امكنت فيه القدرة ) .
والايثار بصفة عامة خلق من اخلاق الكمل من الرجال , وقد نال الامام السري منه الغاية القصوى وهي الفتوة في الطريق , وحمل اثقال المسلمين وتقديم مصلحتهم على الجانب الشخصي , فلقد اثر عن سيدي السري انه كان يقول : ( وددت ان احزان الخلق كلهم علي ) .
انه يريد ان يتحمل وحده عناء و احزان الخلائق شفقة منه عليهم وايثارا لهم على نفسه وذلك هو عين المشرب المحمدي وأنعم به من مشرب .
ومن النماذج التطبيقية لخلق الفتوة عند الشيخ السري ما ذكره الامام القشيري في رسالته قائلا : ويحكي السري انه قال : ( منذ ثلاثين سنة انا في الاستغفار من قولي ( الحمد لله ) مرة , قيل وكيف ؟
فقال : وقع ببغداد حريق فاستقبلني رجل فقال : نجا حانوتك , فقلت الحمد لله فمنذ ثلاثين سنة انا نادم على ما قلت حيث اردت لنفسي خيرا مما حصل للمسلمين ).
لله درك ايها العارف هذه هي اخلاق المسلم التي ارتفع بها صرحه وساد العالمين , وبها تتحقق ذاتية المسلم الكامل الوارث لاخلاق النبوة . ان هذا السمو الاخلاقي هو وليد التربية الصوفية التي تنزع من العبد نفسه الامارة بالسوء وتمحو منه انانيته لكي يصفو ويسمو حيث يحلق في اجواء الحب النقي الطاهر لله الواحد الاحد , ولقد وضع اقطاب الصوفية في مناهجهم السلوكية اكمل المبادئ والاسس الاخلاقية التي ترتقي بالعبد الى مصاف الابرار المقربين .
يقول الامام السري : ( ثلاث من اخلاق الابرار : القيام بالفرائض واجتناب المحارم , وترك الغفلة , وثلاث من اخلاق الابرار يبلغن بالعبد رضوان الله : كثرة الاستغفار , وخفض الجناح , وكثرة الصفات , وثلاث من ابواب سخط الله : اللعب , والمزاح , والغيبة , والعاشر من هذه الثلاث : عمود الدين وذروة سنامه : حسن الظن بالله )
انها مدارج الكمال ومعاريج الاتصال يصفها العارف سيدي الامام السري كما يحدثنا عن عقبات الوصول ووسائل الاتصال بالله تعالى قائلا : ( انقطع من انقطع عن الله بخصلتين واتصل من اتصل باربع خصال . فأما من انقطع عن الله بخصلتين : فيتخطى الى نافلة بتضييع فرض . والثاني عمل بظاهر الجوارح لم يواطئ عليه صدق القلوب , واما الذي اتصل به المتصلون : فلزوم الباب والتشمير في الخدمة , والصبر على المكاره , وصيانة الكرامات ) .
ولمعنى الصبر تحليل جميل عند العارف السري , اذ يقول : ( معنى الصبر ان تكون مثل الارض تحمل الجبال وبني ادم وكل ما عليها لا تأبى ذلك . كذلك الصابر يحتمل كل ما كرهته النفوس لا يأبى ذلك ولا يسميه بلاء بل يسميه نعمة وموهبة من الله سبحانه وتعالى) .
ثم لقد تعرض العارف السري لبيان اخلاق الصديقين . فقد قال الامام الجنيد : ( دخلت يوما فقال لي : ما اوائل احوال الصديقين؟
قلت : لا ادري .
قال ثلاثة : ان يكونوا بما في ايديهم مع اخوانهم سواء , ويطالبوا نفوسهم بما للناس عليهم , واذا عرض امران لله فيهما رضا حملوا انفسهم على اصعبهما وأشدهما وان كان فيه تلف نفوسهم ) ويعقد الامام السري مقارنة صوفية بين الابرار والمقربين قائلا ( قلوب المقربين معلقة بالسوابق , ماذا سبق من الله لنا ) .
واما عن اخلاق الابدال من الاولياء فيقول : ( اربع من اخلاق الابدال : استقصاء الورع , وتصحيح الارادة ,وسلامة الصدر للخلق , والنصح لهم ) .
تلك اشارات ولطائف رقيقة نورانية اتصف بها قوم في الذروة العليا من الصفاء والطهر والنقاء , وتكلم بها امام في المعرفة تفجرت في قلبه ينابيع الحكمة فتحدث عن موارد القلوب . يقول الامام الجنيد : ( بعثني السري يوما في حاجة فابطأت عليه , فلما جئت قال لي: ( اذا بعث بك رجل يتكلم في موارد القلوب في حاجة فلا تبطئ عليه . فانك تشغل قلبه ) انه امام فذ في عصره فريد من طرازه وقد كانت نظرة عصره اليه نظرة المأموم للامام . فلقد روى صاحب الحلية ان الامام الجنيد سمع الحسن البزاز يقول ( كان احمد بن حنبل ها هنا وكان بشر بن الحارث ها هنا وكنا نرجو ان يحفظنا الله بهما . ثم انهما ماتا وبقي السري وأني ارجو ان يحفظنا الله بالسري ) .
ولقد كان للامام السري مع الامام احمد بن حنبل – في حياته – شأن جليل في أمور الحقائق , ومن ذلك ما ذكره الامام الغزالي قائلا : ( وأرسل السري الى احمد بن حنبل شيئا فرده .
فقال له : احذر آفة الرد فانها اشد من آفة الاخذ .
فقال : أعد علي ما قلت , فأعاده .
, فقال : ما رددت الا لان عندي قوت .
فأحبسه عندك وأرسله بعد شهر ) .
لقد تلاقى علم الشريعة وعلم الحقيقة في اعلى قمتين شامختين في العصر كله , واتفقت الكلمتان وتوحدتا وما كان لهما ان تختلفا او تتفرقا ابدا برغم ما يقوله اهل الزور من اعداء الصوفية الذين عميت بصائرهم عن رؤية الحقيقة , ولقد أوضح الامام السري الحقيقة بجلاء في قوله : ( من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكيم فهو غالط ) ولنعم ما قاله اهل الله تعالى : ( الشريعة ان تعبده ,والطريقة ان تقصده ,والحقيقة ان تشهده ) ولكن ما ذنب الشمس في ان يحجب عنها أعمى او لا يحس بها فاقد لجوهر الحياة ؟؟ فليبك المحجوبين على انفسهم بدلا من ان يصبوا احقادهم على المتنعمين بشهود الجمال القدسي , فالذين رفعت لهم اعلام الولاية لن يضيرهم عداء اهل الظلمة والغواية .
ولننتقل الى جانب الكرامات عند قطب الاقطاب العارف المعرف سيدي السري السقطي : ( ولن نضع في حسباننا الذين ينكرون على الاولياء كراماتهم برغم ورودها في صحيح الكتاب والسنة : - يروي صاحب الحلية بسنده عن علي ابن عبد الحميد الغضائري يقول : ( سمعت سريا السقطي ودققت عليه الباب , فقام الى عضادتي الباب فسمعته يقول : ( اللهم اشغل من شغلني عنك بك ) فكان من بركة دعائه ان حججت اربعين سنة من حلب على رجلي ماشيا ذاهبا وجائيا ) ومما ذكره الامام النبهاني في جامع الكرامات : قال : ( وحكى ان السري السقطي لما ترك التجارة كانت أخته تنفق عليه من ثمن غزلها . فأبطأت يوما فقال لها السري : لم أبطأت ؟
فقالت : لأن غزلي لم يشتر , وذكروا انه مخلط .
فامتنع السري عن طعامها . ثم ان اخته دخلت عليه يوما فرأت عجوزا تكنس بيته وتحمل كل يوم اليه رغيفين فحزنت أخته وشكت الى احمد بن حنبل , فقال احمد بن حنبل للسري فيها فقال : ( لما امتنعت عن اكل طعامها قيض الله لي الدنيا لتنفق علي وتخدمني ) . وقال احمد بن خلف : دخلت يوما على السري فرأيت في غرفته كوزا جديدا مكسورا .
فقال : اردت ماء باردا في كوز جديد فوضعته على هذا الرواق ونمت , فرأيت في منامي جارية مدنية فقالت : يا سري : من يخطب مثلي يبرد الماء , ثم رمته برجلها فاستيقظت من نومي فاذا هو مطروح مكسور ) .
قال الجنيد : فرأيت الخزف المكسور لم يمسسه ولم يرفعه حتى عفى عليه التراب وعلمت ان مخالفة النفس وقمع الشهوات واللذات من دواعي الوصول وشواهد المشاهد ) .
ولقد فلسف العارف السري نظرته للكرامات بقوله : ( من أطاع من فوقه أطاعه من دونه ) كما فلسف من قبل نظرته للمحبة الالهية إذ قال : ( لا تكمل محبة بين اثنين حتى يقول كل للاخر يا أنا ) .
والصوفية لا يعرفون المحبة الا لله او في الله لان قلوبهم ممحضة لله . انهم عباد الهيون ربانيون . اجتمعت قلوبهم في محراب الخصوصية والاصطفاء لتنال من الله وافر العطاء .
وبعد : فقد أمضينا هذه الرحلة النورانية مع قطب من اقطاب الصوفية الامجاد وامام من ائمة الولاية الافراد سيدي الامام العارف السري السقطي شيخ الامام الجنيد وامام التصوف في عصره . وقد اقتبسنا منه هذه النفحات المباركات زادا لارواحنا ونورا لقلوبنا علنا نقتفي الاثر ونسير على الدرب ونسلك السبيل .
رضي الله عنك يا مولانا السري وأمدنا منك بالمدد الاعلى وشرفنا معك بالصحبة المباركة ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .